عدد الرسائل : 118 العمر : 34 الموقع : bassem_moner@yahoo.com تاريخ التسجيل : 14/04/2008
موضوع: الشخصية فى الفن المصرى بين الحرفة والهواية الثلاثاء أغسطس 26, 2008 5:17 pm
كانت الحركة الفنية رغم حداثتها – حين ظهرت بصورة رسمية في عام 1908- تاريخ إنشاء مدرسة الفنون الجميلة، كانت قد بدأت قوية، ومتسقة إلى حد بعيد مع التيار القومي العارم الذى كان معنياً بطرح قضية الاستقلال الوطني على الساحة عن طريق النضال.
كان طبيعياً أن يخرج من بين ثنايا هذا المعطف القومي فنانون أفذاذ يتبنون نفس التوجهات والآمال ، ويسـاعدون علــى خـلق تيــار وطني فــي ســـياقه وأوصـافه، مثــل محمود مـخـتار (1891-1934)، ومحمد ناجي (1988-1956)، ومحمود سعيد (1897-1964)، وراغب عياد (1892-1982)، ويوسف كامل (1891-1972)، وحبيب جورجي (1892-1965).
ترجم محمود مختار في تماثيله النبض القوي الواضح للنضال المصري، وللكبرياء الوطني، وعبر عن فحوى الضمير الشعبي في إزدرائه الكلى للمحل الأجنبي، وفي تمجيد الأبطال القوميين. كانت قضية البحث عن الشخصية هي البديل الغائي في مواجهة المسخ القائم.
وبينما كان راغب عياد منشغلا في تصاويره بتجسيد الوجدان الشعبي محملاً بتلك المواريث العميقة لقيم المصريين الروحية، كان محمود سعيد ومحمد ناجي قد انسلخا – طواعية واختيارا – عن مهمة التعبير لصالح الطبقة العالية التى كانا ينتميان اليها. لقد تسببت تصاويرهم المشبعة بآفاق الضمير الوطني صدمة فجائية في مواجهة القيم الرجعية المعادية التى كانت تتبناها المفاهيم الملكية.
فعلى حين رسم محمود سعيد حياة الصيادين على الشواطىء، وحشد في أعماله الجمال اليومي لتلك الفتنة الخافية في وجوه بنات الحضر، والريف ، وكرس جانياً كبيرا من أعماله للتعبير عن حياة أولئك البسطاء، والفقراء والباعة المتجولين، وحاملي البيارق، 00 كان محمد ناجي يرسم – في الجانب الآخر – الفلاحين، والعمال، وزمن الحصاد. وفي إحدى صوره الشهيرة العملاقة رسم الشعب المصري بجميع طوائفه وفي وسطهم الشيخ المسلم، والقس المسيحي يتبادلان معاً حمل الصليب والهلال، تجسيداً للوحدة الدينية واتلروحية والعرقية، وعوامل النبل الفياض التى تغطى وجوه أولئك المتعبين، وغير المتعبين على السواء.
لم يكن الفن إذن يبحث في الأسواق عمن يشتريه. بل إن شراء الفن كان من بين تلك المعصيات التى تخدش كبرياء صانعه.
كانت المهمة هى كذلك عطاء غارق في النبل الوطني من دون بديل يوازيه، سوى الوطن.
كانت ثورة 1919 الشعبية نتاجاً منطقياً للمعتقد، وللوجدان المصري الذي مهد لها. كانت تمثل مصداقية كاملة للأفكار، وللثقافات، وللفن، وللآمال الشعبية التى أخذت تميز هذه الفترة على وجه من الصعب أن يتكرر.
وفي النصف الثاني من العشرينات وحتى النصف الأول من الأربعينيات ، كانت حركة الفكر الاجتماعي النشيط ، والملتزم بالنطاق العارم للنموذج الشعبي، والوطني، قد تم حصارها عن طريق تلك المحاولات المتواترة، التى أخذت على عاتقها إحلال المعتقد "الغيبى" بديلا عن عملية الإدراك المستنير لفكرة الوطن. وانتشرت آنذاك صورة للأهداف الرامية إلى تغذية الوجدان الفردي الأحادى، وتحييد "النموذج" الوطني عن طريق التمجيد الملح للذات المفردة، وإغراقها في حالة من التعقيدات الرومانسية العليلة. وظهر – آنذاك – أولئك المغنون، والملحنون، الذين يبثون للناس حالة العليل وهو انه بدلاً عن الوطن، ويحشدون قواهم الفنية للحب المريض بدلاً عن القومية، ويتغنون بالوحدة، وسهر الليالي، والحزن المتدني، 00 بدلاً عن الالتحام مع المشاكل الحياتية للأمة.
ومن الزاوية الأخرى، كان الفنانون الأجانب قد أخذوا يحتلون الساحة الممهدة كتلبية – شبه طبيعية في جانب، ومتعمدة في جانب آخر – بغية إشباع الاهتمامات المصطنعة للطبقة الحاكمة، أيا كان انتماءها القومي.
كان هنالك تياراً تحتياً قوياً يجرى لحقن الدماغ المصرية بهدف النحر في كيان النموذج الشعبي، وإحلال بدائل معاكسة، وطيعة. ولم يكن غريبا – لآنئذ – أن يقتحم ضمير الحركة الفنية الوليدة عشرات من الفنانين الأجانب، وأنصاف الأجانب من كافة الأجناس ، وهم مدعومين – لسوء الحظ على كل صعيد – بالكثير من التوفير والاحترام وربما المهابة، من قبل الطبقة العالية الغنية.
كان من بين هؤلاء بيبي مارتان، وأنجيليو دو رويز، وتشارلز بيوجلان الفرنسيون ، وكارولين رينر النمساوية، وأزيكو بارانداني، وجوزيبي سباستي الايطاليان، وآرتي توباليان البريطاني، ومارجوت فيولون، وميخائيلا بورشار السويسريتان، وأشود زوريان الخراساني، وارستومنتس أنحييلولوبولو اليوماني، وسيمون سامسونيان، وفاهان هوفيفيان التركيان، وسالم موجلى الأندونيسى. فضلا على عشران آخرين ولدوا في مصر، من بينهم :أندريه ساسون، وباروخ، وكليا بدارو، وجوزيف بونيللو، ولويس جوليان، وأرماندو ماريدل، وروز بابازيان، وارستيد باباجورج.
ولقد حاز عدد من هؤلاء الفنانين على الجوائز الأولى لصالون القاهرة، وأرسل بعضهم لتمثيل مصر في بينالي فينسيا، وساوباولو الدوليين عدة مرات.
كان التوغل قد وصل إلى النخاع، وأحكم الحصار. وكان طبيعيا – ربما – أن يخرج من جعبة هؤلاء الأجانب فنانون مصريون واقعون تحت تأثير التيارات العاتية، فإن الأغراء كان قويا، والتوفير كان مضمونا ،وتحقيق الذات المفردة – أيا كان ذلك التحقيق – رهين بمدى التجديف في عمق التيار، 000، ومنذ العام 1938، كان قد تم انسلاخ ملحوظ بعيدا عن تلك القيم الوفية للذكريات الشعبية التى سادت أعمال الفنانين المصريين في السابق.
وفي أول بيان صدر بتوقيع الفنان المصرى كامل التلمساني في يناير 1937، قال فيه : " إن الحساسية الشرقية هي غطاؤنا" ولكنه تحت توقيعه ايضا كتب مايلي : " بيان جماعة مابعد المستشرقين"، وهو وإن كان لجماعة "مابعد المستشرقين" حقا، إلا أنه يحمل في طياته ذلك الاعتراف الواضح المهذب بأحقية خروجه مع جماعته من ثنايا جعبة الفنانين الأجانب. تلك الجعبة التي نتحفظ على مراميها، وإن كنا لا نتجاهل – بالحق والانصاف – وجهها الآخر الجواني في حركة التعبير الفني بصورة مستقلة للغاية.
وفي الفترة من عام 1938- 1946، كان رمسيس يونان والتلمساني، وفؤاد كامل، قد اعتبروا في مصاف الفنانين"اسورياليين" بشكل قاطع، وإن كانوا بعد ذلك قد ذهبوا في الفن إلى شوط آخر بعد عام 1955.
بداية النهوض
وبالمقابل ظهر حسين يوسف أمين (1904) في منتصف الأربعينيات، حين نادى بضورة تكوين "جماعة الفن المعاصر" على أنها رسالة وهدف، مقابل حالات التردي التى بدأت تشكل الواقع المصرى.
كان نداء حسين يوسف أمين هو البداية من جديد. فالمعاصرة عنده كانت هي الغوص حتى القاع في متن المأثورات الشعبية، وإحلال التقاليد والقيم المصرية الأصلية، على أساس أنها عناصراً لبطولات الوطنية، واستخدام الرموز المتخمة بمكنونات الضمير الشعبي في رسوم الفنانين باعتبارها موجودات قدسية الطابع في حد ذاتها.
إن "الشخصية المصرية" في مواجهة المحتلين كانت بحاجة إلى رحيقها الغائب، كانت بحاجة إلى إعادة تصنيف وتصحيف الصيغ المختلة السياق والأوصاف.
كانت بحاجة الى أن تغتسل ، وتنهض. وبعد عام واحد فقط كان قد انضم الى هذه الدعوة فنانون ملتزمون – بحكم انتماءاتهم – الى تمحيد المضامين السلفية، وعوامل اتلداعي "الميتافيزيقي" للخيال الشعبي، برغم انحيازهم – في نفس الوقت – لتحديث الأساليب والصياغات وتجديد التراث. كانوا يريدون "فنا مصريا"، وليس فنا يعد من قبيل "ماابعد المستشرقين".
أخذ أولئك الفنانون ينجزون تصاويرهم التى كانت تعالج موضوعات خشنة وقاسية بأساليب حوشية الطابع، وميتافيزيقية القالب، غير أنها ملتزمة على نحو قويم بذكريات المصريين لنموذج البطل القومي. كانت هذه التصاوير تعبر بالضرورية عن رفض ماهو قائم على اعتبار أنه واقع مزيف جدير بالسخرية، والمهانة. بل إن بعض رسومهم التى كانت تعبر بشكل فج عن القبح الفاضح بالمقارنة للجماليات الرومانسية المصطنعة التى أخذت تفرزها طبقات مابعد الحرب الفنية، كانت بمثابة تعبير عن قدر الصدام المرتقب في مواجهة النموذج الصنمي المنتشر في اسواق "الإيليت".
كان حامد ندا، وسمير رافع، وعبدالهادي الجزار،وماهر رائف، يمثلون "جبهة فن" وطنية على نحو مختلف، وحين كان غيقاع هذا الطنين يجري سريعاً، فقد كان من الطبيعي أن يتقابل ويتحد بصورة مباشرة بالتعبير عن نقل صور النضال المصري عند البعض، وتمجيد الجماليات الشعبية عند البعض الآخر. كان هناك آنذاك سيد عبدالرسول، وتحية حليم، وانجي أفلاطون، وعبدالقادر رزق، وصلاح طاهر، وحسين بيكار.
لقد كان الحال إذن على هذا النحو المثير المتوتر. فإن "رفض تحييد الجماهير" أمام صور التعبير الفني – آنذاك – كانت مسألة لازمة.ورفض تحييد المثقفين المصريين أمام الأماني الشعبية، كانت إحدى ضرورات التوجه والقالب.
كان الرواية كلها في حقيقتها دعوة لممارسة النضال من جديد. كان الفن "هواية" ، ولم يكن "حرفة" فإن عوامل النبل المكين من الصعب هنا أن يتم تدحيضها، أو تهوينها بالاحتراف، فلم يكن قد استقر في اعتبار أحد أن الفن هو "بورصة التجار" إيا كان سبيلهم، وإن الأهداف الرفيعة ما كان يجسر أحد على خدشها بأخذ الفن في مواضع الأسواق، وبالنظر الى محتل أجنبي لم يصل فقط الى الأرض، والرزق، والكبرياء الوطني، وإنما أيضا أخذ يزحف في صميم رقعة الدماغ ذاتها. وكانت ثورة 1952 هي النموذج المقابل لثورة 1919 الشعبية.كانت نتاجا للسنوات العشر السابقة عليها، مثلما كانت ثورة 1919 نتاجا هي أيضا، للسنوات العشر السابقة عليها. كان التمهيد يكاد يكون هو ذاته، وكذلك الفرز يكاد يكون هو ذاته.
اتجاهات رئيسية ثلاثة
كانت الثورة منحازة للفقراء، ولأصحاب الأحلام الوطنية، للفلاحين والعمال، وأولئك المعدمين الذين يمثلون غالبية الشعب المصري. ومن هنا بدأ صراع "الأسلوب" الفني. كان الفنانون مدعوون بصورة مباشرة لتجاوز مخاوفهم وشكوكهم حيال قضية التعبير الفني. إن الحلم الوطني الذي طال أمده قد بات من الممكن لمسه على نحو فعال وحقيقي، بحيث كان متعيناً على بعض الفنانين الخلافين أن يتجاوزا فكرة الثورة ذاتها بحثاً عما وراءها، بحثاً عن المستقبل. كانوا يستطيعون حينذاك أن يمنحنوا طموحاتهم الذاتية في نطاق التقنيات الفنية السائدة في العالم، واستقراء صيغ التعبير الفني دون خشية أو حساسية.
ثمة في هذه اللحظة ما دعي الاتجاهات المتداخلة، والروافد الهائمة الى أن تختط لنفسها الطريقة، والوسيلة، بحيث تعبر عن مكنوناتها، وعناصر بنائها، وسياقها، حتى تلوذ "بالفكرة المصرية"، وتضمن التكريس المارد لاعتماد الطابع.
حينذاك ظهرت ثلاثة اتجاهات رئيسية افرزت نتاجها في قنوات الفن المصري.
وتقول "اتجاهات" لأنها لم تكن "مدارس" فن . فالمدرسة الفنية تبدأ بذوق عام ضاغط بغية اشباع حاجات جمالية، ولزومية. ويكون الاحتياج طبيعياً، في حين أن الضرورات إليه يحكمها المجتمع، واتلاريخ ،والاقتصاد، والنظام السياسي. ثمة في المدرسة الفنية مايلزم من "الزمن" بحيث يبدو لنا الأمر "تلقائيا" ولكنه في الحقيقة "مراداً" على صورته ومذهبه. ثم يأخذ الشوط مسافته البعيدة حين تتكون الملامح، وتكتمل، وتستقر الأشباه، ثم يأتي وقت يكون الحقن فيه ضرورياً للتغلب على فكرة النمط والقالب الجاهز، وحينئذ يبدأ التطوير – من حيث يجب أن يبدأ التطوير – طوعاً للمجمع والتاريخ، وكذلك طوعاً لقوة التأثير الفعلية الخلافة لفكرة الجمال، ولفكرة الضرورة، ولفكرة الخيال.
فالمدرسة الفنية إذن هي معيار للنطاق الصحي الصرف في مجتمع هو سليم البنية والخلايا. ونحن من هنا لايمكننا الزعم بأن الحركة الفنية المصرية كانت قد تشكلت أبعادها على مدارك المدرسة الفنية، بقدر ماكانت نوعاً شائكا من ردود الأفعال، وانعكاساً قوياً للدواعي التى استلزمتها، وأفرزتها، على صورة تكاد تكون محتومة. ومع أن ذلك ذلك لا ينقص من قدر شأنها، إلا أننا هنا نتحدث عن المعيار والصورة، حتى نتجنب قدر المستطاع تلك التعبيرات الرائجة في أسواق النقد المشاع على كل منهج وسبيل.
الصراع بين الحرفة والهواية :
إن الاشكال الصنمية كانت قد تهاوت أمام الشعارات الواضحة التى طرحتها ثورة 1952 على الساحة، وبات على كثير من الفنانين أن يحددوا مواقفهم الابدعية، والثقافية من وحى ضميرهم الصافي. وأياً ما كان تقييمنا لطبيعة المرحلة، فقد وجد الفنانون أنفسهم أمام حالة من الحرية جعلتهم مسئولون إلى حد بعيد عن التعبير عن شعارات الثورة التى كانت هى نفسها شهاراتهم هم.
ظهرت إذن ثلاثة اتجاهات رئيسية :
الاتجاه الأول (1945-1958)
مجموعة كانت بمثابة جزء من نبص حركة التحول الاجتماعي ذاته، يقف فى وسطها حامد ندا وعبدالهادي الجزار، وسمير رافع، وماهر رائف، وسيد عبدالرسول، وانحي افلاطون، وتحية حليم، وحامد عبدالله، وأبوخليل لطفي، وعبدالقادر رزق، وحامد عويس ومحمود مرسي. كان هؤلاء معنيون إلى حد بعيد بمسألة التعبير عن بنية "الشخصية المصرية" الجديدة من خلال الرمز من ناحية، ومن خلال التأكيد على فكرة الكبرياء والانتصار لجماليات الواقع المصري الذي ظل مهانا لزمن طويل، من ناحية أخرى.
إن تعبير الشخصية المصرية كان واردا "كاحتمال" فني، ورد فعل جوابي على الترقبات الظنية هذه الشخصية التى تخرج هذه المرة متحررة من ربقة الاحتلال، ومن طغيان الطبقة البرجوازية المصطنعة، وهي متحلية بشعارات الثورة التى تفجرت وهي تطالب بالعدل الاجتماعي، وبالتطهير، وبتصفية الاقطاع، وبإعادة الأرض إلى الفلاحين، وبحق المصريين في العمل ضد امتيازات الأجانب القسرية.
لقد كانت أعمال أولئك الفنانين تمثل نوعاً من الطموح الفني، والسياسي الذي كان مدعاة للفخر والتأييد في ذلك الوقت، وانتشرت حينئذ وسائل تعبير تطرح مجموعة موضوعات تمثل واقع اللافح المصري، وتمجد العمل، وتسجل الانجاز. وبوجه عام فقد كانت لوحاتهم تمثل حالة من حالات الانتصار الذاتي، والكبرياء الوطني، كما كانت أيضا تتميز بقدر معقول من الصدق ضمن لها – من بين ماضمن – الاستقبال الجماهيري الطيب، والتفهم اللازم.
لقد أخذ الناس يتحركون من قبورهم المظلمة عند عبدالهادي الجزار، بينما ظلت القطة على ذلك النحو المتواتر التي رسمها بها "الجزار" تمثل معادلا يكاد يكون غائباً للضمير الحي. وفي لوحات أخرى كان الجزار قد خصص للرجال الموتى في مقابرهم رصيداً هائلا من السخرية المريرة، وفيما قبل ذلك – أي في العام 1949 – فإنه كان قد جعل "الفأر" يزحف في البيوت، ويأكل النسوة، ورسم تجار الغيب على أنهم اشرار جالبون للتفزز والقذارة.
على حين كان حامد ندا قد اختار رمزه الشهير "الديك" في أعماله جميعا على وجه التقريب فهو ديك لا يعرف الاستكانة أو الصمت بل إنه كان كذلك معادلا "للاحتمال" مثلما كان "الزير" عنده معادلا للأخلاق، ومثلما كانت "السمكة" عنده أيضا رمزاً عمومياً لفكرة "الخير".
كانت رسومهم خشنة، ولافحة الضوء ومزرية، وربما قبيحة بالنظر إلى حجم المرارة الكامنة، والولوج في صميم الصدق في التعبير.
ربما كانوا تعبيريون غلاظ "حوشيون"،وربما كانوا واقعيون رمزيون إلى درجة اختيار نقيض تصامي قاس، أو خليط مقطر من ذلك النهج والقالب التقني الذي قدمه "الفارو سكويروس (1896-1974)، وفان جوخ (1853-1890)، ورووه (1871-1958)، وبيير بونارد (1867-1947) – على أن النبه كان "مصريا" وكذلك الضمير الفني، والعناصر، والاخلاق، ومكونات العمل البنائية.
أما في الجانب الآخر من هذا الاتجاه الأول، فإننا نجد سيد عبدالرسول وتحية حليم، وقد عبرا عن الشوق الى إحلال الجماليات المصرية باعتبارها معادلاً للكبرياء. فإن الجمال لم يعد قائماً لديهم في مدى صمت الطبيعة. لم يعد "الجمال" مجموعة تفاحات الى جوار بعضها فوق طبق أو هو "طبيعة ميتة" لجزء من سمكة، أو هو لمنشور ضوئي مندفع من نافذة مواربة ساقطاً في مواضع الصمت بين الظل والنور. كما أن الجمال لم يعد زهوراً شجية اللون في أواني الزينة المنزلية.. ذلك أن الجمال عندهما لم يكن موقفا محايدا تجاه "الأخلاق". أمي أنه لم يكن موقفاً "كلياً في ذاته"، بل كان جزءا من طابع التعبير – أيا كان التعبير -، جزءا من وجهة النظر، جزءاً من "المسألة" حين يصعب التعرف عليه منفصلاً أو مستقلاً عن بقية العناصر في العمل.
رسم سيد عبدالرسول عروسه المولد الشعبية، وبائعات البرتقال، كما رسم حامد عويس الفلاحين، وجامعي المحاصيل، ورسمت تحية حليم الصيادين ورقصة التحطيب ، والأسواق العمومية، والحواري المملوءة بأطفال الفقراء وهي ضنينة بضوء الطبيعة.
لم يكن الهدف إذن هو تملق أذواق المشترين، أو أن يلوذ الفنانون بمتعة الانتشار، أو المتاجرة بالقيمة. بل إنه كان حالة من حالات إثبات الوجود. كانت "هواية" معادلة لمعنى"النيل والشرف" بمفاهيم زمانها. ومادامت "الحرفة" هي نقيض الهواية، فإن الخروج إليها كان شائكا. ثم إن اختراق الحواجز بين "هواية الفن"، وحرفة الفن"، كان في ذلك الزمان تطلعا شأننا يتساهل ازدراء مشاهديه.